في عام ١٣٨٢هـ / الموافق سنة ١٩٦٢م، قام الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، المحقّق الشّاميّ المعروف، بزيارة دار العلوم ديوبند، المدرسة الكبيرة في الهند، التي طبّقت شهرتها الآفاق، وانتشر منتسبوها الخافقين، والتي يصفها أبناءها بـ «أزهر الهند». فتَمَتَّعَ بجوّها النوراني العجيب حيث زار مآثرها، وشاهد تراثها، وقابل أهلها أساتذةً وطلبةً وموظّفين، وحضر دروس الحديث عندها، وفي النّهاية أدرج ما يلي في سِجِلّ الانطباعات، أحببتُ أن أسترعي انتباه الأحبة إليه لندرته، ومشاركتهم به لعظيم فائدته:
بسم الله الرحمن الرحيم
كان من نعمة الله تعالى على هذا العبد الضعيف، راقمِ هذه السطور، أن زار بلادَ الهند، وفي طليعتها بلدةَ ديوبند وجامعتَها، قلبَ الهند الحيَّ، النابضَ بالعلم والتقوى، والزاخرَ الفيّاض بالعلماء والمؤلّفين، والـمَوّاجَ بطلّاب المعرفة والدين.
وكانت هذه الزيارة عندي من أماني العمر، وأحلام الليل والنهار، فيسّر الله ذلك على أطيب حال، وله المنّة. ولما زرتُها وجدتُها على القرب أطيبَ منها على البعد — تُفيض أنوار العلوم من جنباتها، وتُقرأ أحاديث الرسول صلّى الله على وسلّم في عرصاتها، وتُبين أحكام الدين للمسترشدين، مع النظام التامّ، والخِطّة الرشيدة، والغاية المثلى، مصحوبًا كلّ ذلك بروح أولي الروح وعبقات أصحاب الفتوح.
وكان من تمام السَّعد والفضل أن شهدتُ بعضًا من مجلس الحديث الشريف لمولانا الأجلّ، بركة الأمّة، ذي الأنفاس الطّاهرة، سيدي الشيخ المحدّث محمد فخر الدّين المراد آبادي، وقد تفضّل مراعاةً لوجود العاجز الضعيف وأجابةً لرغبة الإخوة الطلبة المحبّين الكَمَلَة، فقرّر بالعربية حديثَ بني سلمة الذين رغبوا أن يتركوا ديارهم ويتحوّلوا إلى جوار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ديارَكم تُكْتَبْ آثارُكم».
فكان تقريره الدررَ الغوالي، والكوكبَ المتلألي، وفيضَ الباري، وعمدةَ القاري، مضافًا إليها إرشاده الساري في الطلبة المستمعين سَرَيَان الطّيب في الهواء والحياة في الماء. فجزاه الله عن السنة المطهرة وأهلها خيرا، وأدام هذا المعهد بأركانه ودعائمه، الأئمةِ الأجلّةِ، بُدُورِ الهدى، ومصابيحِ الدجي، أمثالِ سماحة الشيخ، صدر المدرّسين، مولانا العلامة إبراهيم البَلْيَاوِي وإخوانه، وفي مقدّمتهم مولانا القارئ محمد طيّب — حفظهم الله تعالى وبارك في أنفاسهم الصالحة وأوقاتهم الرابحة.
وكان من زيادة الإكرام أن أحلّونا ضيوفا عليهم في دار الضيافة، واسترشدنا بهديهم في العلم. فلله الحمد والمنّة بدءا وختاما.
والذي ندين اللهَ به أن هذا المعهد بعلمائه وطلّابه اليومَ هو رِئةُ الإسلام الصادقةُ الناطقةُ وشجرةُ الدين الوارفةُ ومؤمل العلم والتقوى، فنسأل الله له الدوام والازدهار، ولأساتذته الأعلام النفعَ بطول الأعمار، واللهُ يُجيب ولا يُخَيِّب رجاءَ الراجين فضلًا منه وكرَمًا.
وفاتني أن أذكر هناك وأنا بين الأيادي التي قام بها علماء هذا المعهدِ الكبير الجليل، العامرِ بأساطين العلم والدين والتقوى، أن لنا طِلْبَةً منهم، وإنْ تطاولتُ، قلتُ: إن لنا عليهم حقا، وذلك الحق هو أن يقوموا لنا بترجمة نتائج عقولهم الفريدة، وفيوضاتهم العلميّة البارعة.
فإنّ كل عالم يقرأ شيئا لجهابذة العلم في الهند يجد فيه علما جديدا وغنيا بالفائدة والفتوحات العلمية التي عمادُها التقوى والصلاج والانهماك في العلم مع الانقطاع عن كل ما سواه، فلذلك لا تخلو مؤلّفاتُ الشيوخ الأماجد — علماءِ الهند — من جديد ومفيد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفي كثير منها ما لم يوجد في كتب أكابر العلماء المتقدمين مفسرين أو محدثين أو حكماء، ولكن نقول — والأسف يَحُزُّ في النّفْس ويأخذ بالتلابيب —:
إن جمهرة تلك المؤلّفات النادرة أو كلَّها قد أُلّفت باللغة الأردوية، وهي لغة بلاد الهند، وليست هي لغة علوم الإسلام المنتشرةُ، فتلك هي اللغة العربية،
وهذه العلوم والكشوفات التي فاز بها إخوانُنا علماءُ الهند إذا بقيت في قوالبها الأردوية بقيت محجورةً عن أعيننا — نحن معشر الناطقين بالعربية، وفي هذا غبن كبير لنا وللعلم والدين، لأن تلك الكتب أُلّفت لخدمة الدين والإسلام، فلا يجوز قصرها على مجموعةٍ من الناس ومنعها عن مجموعة من الناس، بل إن من أوجبِ الواجبات العلمية وأداءِ حقّ المعرفة أن تُـتَرجَمَ تلك الكتبُ النفيسة إلى العربية لتستنير بها عيونٌ وقلوبٌ ظَمْأى إليها جدّا، وهذا الحق الثقيل لا ينهض به — فيما إخال — إلا هذا المعهد العامر الزاخر بالعلماء والطلبة النجباء.
وأنا إذ أسجّل شكري لهم جميعا لِمَا لقيتُ في ظلّهم الوارفِ من الحفاوة والمحّبة الفيّاضة أسجّل عليهم راجيا متطاولا: المطالبة بالنهوض بهذا الحقّ أداء لخدمة الدين، إذ ليست علومُهم ملكا للهند فقط؛ بل هي ملك للإسلام والمسلمين على اختلاف أقطارهم، بل هي ملك للناس والبشرية جميعا. فحقّها أن تُـيَسَّرَ للناس جميعا، وقد استبشرتُ خيرا بما ترامى إليّ أن إدارة المعهد بمجلس الشورى فيه آخذة بالقيام بهذا العبء العظيم والحق العظيم المتوجّب على علماء الهند وطلّابهم خاصةً، فلهم خالص شكري معجّلا، وأرجو من الله عزّ وجلّ أن يُعِينَهم على أداء هذا الحق وإيصاله إلى مستحقين من أفراد العالم، وليس ذلك على الله بعزيز، ولا على هِمَمِهِمْ ببعيد.
وكتبه شاكرُ الأيادي، وضيفُ هذا النادي، العبد الضعيف:
عبد الفتاح بن محمد أبو غدّة
خادم طلبة العلم بمدينة حلب من بلاد الشام، وتلميذ العلامة الإمام الكوثري — رحمه الله تعالى ورضي عنه — في ضحى الخميس ٢٨/ من ربيع الأول سنة ١٣٨٢هـ (الموافق سنة ١٩٦٢م)